مشاريع الاستبداد في السودان- صراع السلطة وضرورة الديمقراطية

المؤلف: علي عبد الرحيم علي08.18.2025
مشاريع الاستبداد في السودان- صراع السلطة وضرورة الديمقراطية

في أعقاب سقوط نظام البشير، تصارعت ثلاثة مشروعات للاستئثار بالسلطة في السودان: مشروع حميدتي، الذي حظي بدعم خارجي وكان الأكثر تهديدًا؛ ومشروع قوى الحرية والتغيير، الذي ضمّ ائتلافًا من المصالح المتباينة المتفقة مؤقتًا؛ وأخيرًا مشروع البرهان وبعض قادة الجيش المتحالفين معه.

بالمقابل، انقسم أنصار الديمقراطية إلى ثلاثة تيارات: المشروع الذي حمله الراحل الإمام الصادق المهدي، وتيار واسع من الإسلاميين الذين تباينت دوافعهم بين الإيمان بالديمقراطية كمبدأ، وبين من رأوا فيها وسيلة لتجنب انتقام خصومهم؛ والتيار الثالث تمثل في عموم الشعب السوداني الذي عبّر عن تطلعه إلى نظام ديمقراطي من خلال النضال الجماهيري المتواصل، والذي تجلى في المظاهرات والعصيان المدني والدبلوماسية الشعبية.

ومع رحيل الإمام الصادق المهدي، افتقدت الساحة المشروع السياسي المتكامل الوحيد للانتقال الديمقراطي، ولم يتبق إلا تطلعات متفرقة لدى بعض الفاعلين السياسيين، ومُجتمعة لدى عامة الشعب. ولا يمكن لهذه التطلعات أن تنتصر على مشاريع الاستبداد ما لم تتحول بدورها إلى مشاريع مُحكمة تحملها جماعات منظمة ونافذة وقوية.

يعيش السودان حاليًا فراغًا من هذا النوع من الجماعات، والصراع السياسي الدائر هو في جوهره تنافس بين مشاريع الاستبداد المختلفة. الاستبداد العسكري واضح المعالم، ولكن من الضروري إلقاء الضوء على بعض سمات مشروع الاستبداد المدني الذي كانت تسعى إليه قوى سياسية بعينها.

البرهان، الذي يسعى إلى السلطة بدوافع شخصية ودعم إقليمي، يعلم أن إقصاء "مجموعة الأربعة" قد أرضى قواعده في الجيش وأسكت غضبهم مؤقتًا. فالسخط بين العسكريين على الوضع غير المعهود لقوات الدعم السريع متفاقم. والمانع الوحيد للاصطدام بينهما هو تحالفهما المؤقت ضد عدو مشترك. إذن هي معركة مؤجلة، ستحسم إما بالسلاح أو بالتسوية.

قد يكون من غير الدقة وصف مشروع "مجموعة الأربعة" (حزب الأمة، التجمع الاتحادي، حزب البعث، والمؤتمر السوداني) بالاستبداد المدني بشكل قاطع، لأن الهيمنة على القوات المسلحة كانت جزءًا لا يتجزأ من هذا المشروع. لكن المسار التدريجي نحو الاستبداد كان يتغطى بغطاء مدني، حتى يصبح من الصعب إيقافه عند انكشافه.

سبق لي أن كتبت عن فكرة "ديكتاتورية التنظيم" (كما ورد في كتاب أصحاب الحق)، حيث يسعى تنظيم سياسي للهيمنة على الدولة دون اللجوء المباشر إلى القوة العسكرية. يتحقق ذلك من خلال عمل دؤوب - وغالبًا ما يكون طويل الأمد - للسيطرة على مفاصل التغيير في المجتمع، في المجالات الفكرية ومؤسسات المجتمع المختلفة، بما في ذلك الاقتصاد والإعلام والمجال السياسي.

كان هذا في الأساس مشروع الحركة الإسلامية في السودان، الذي أطلقوا عليه "التمكين"، مستشهدين بالآية الكريمة، لكن الإسلاميين استعجلوا التغيير واستعانوا بالعسكر، ثم آلت الأمور إلى ما هو معلوم.

إن "مجموعة الأربعة" - باستثناء حزب الأمة - يائسة من الوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع. لذلك اتخذت من "لجنة التمكين" - كما أُطلق عليها بحق - أداة لبسط سيطرتها على مفاصل الدولة وتنفيذ مشروعها الاستبدادي بتوسع.

لكنني أرى أن مشروع "مجموعة الأربعة" كان يفتقر إلى العمق الذي امتلكه الإسلاميون. كما كان يفتقر إلى الوقت والدعم العسكري. لذلك سعوا جاهدين لإطالة الفترة الانتقالية، فبدأوا بـ 39 شهرًا في الوثيقة الدستورية، ثم أضافوا عامًا جديدًا في اتفاق جوبا، وأعتقد أنهم كانوا سيضيفون المزيد من الأعوام بالاتفاق مع عبد العزيز الحلو أو عبد الواحد نور، أو بأي ذريعة ممكنة، وذلك لكسب المزيد من الوقت.

للسيطرة على القوات المسلحة، ضغطت المجموعة على قيادة الجيش لإخراج الضباط الإسلاميين، وقد فعل البرهان ذلك إلى حد ما. ثم من خلال الإلحاح المستمر على فكرة صحيحة، وهي إعادة هيكلة الجيش، حاولت المجموعة التسلل بحلفائها من الحركات المسلحة لبسط نفوذها عليه. يشهد على ذلك أنهم اعتبروا حميدتي الحصان الرابح في هذا المسعى، وهتفوا له عندما انقلب على البشير، ولم تخرج كتائب للإسلاميين خوفًا منه كما كان متوقعًا. لكن حميدتي كان يحمل مشروعه الخاص للحكم، وقد تجلى هذا بشكل واضح ومؤلم.

كان مشروع "مجموعة الأربعة" للاستبداد محكومًا عليه بالفشل. لقد ظنوا أن نقاط قوتهم تكمن في الجماهير وطاقة الشباب على التظاهر في العالم الواقعي والافتراضي؛ إضافة إلى رمزية رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ودعمه الدولي. ولعلهم اعتقدوا فوق كل ذلك أن البرهان ضعيف بسبب خوفه من المساءلة عن فض اعتصام القيادة في مايو 2019.

فقدت المجموعة الجماهير عندما نكثت بوعدها بالابتعاد عن المناصب الوزارية، ثم أبلت فيها بلاءً سيئًا. كما أساءت تقدير قدرتها على ابتزاز البرهان لتغيير الجيش، متجاهلة طبيعة المؤسسة العسكرية التي تدين لقائدها بالطاعة، ولكنه لا يملكها. لقد صبر الجيش على ضعف القائد أو ظلمه الذي طال أمده، ولكنه لن يدوم، وكفى بالبشير عبرة.

شعر البرهان بالنيران تشتعل من تحته، فضرب شركاءه الأقربين على مضض، ومضى متعثرًا محاولًا تمهيد الطريق لمشروعه الشخصي الذي عجلت به الظروف. أما "مجموعة الأربعة"، فمن المرجح أنهم سيخرجون - وينبغي أن يخرجوا - من السجن قريبًا، ولكن لا أمل في أن يتعلموا الكثير مما جرى، ولو عادوا لعادوا إلى ما نُهوا عنه من قبل.

إن انقلاب البرهان ليس إلا إخراجًا متوقعًا للكيان الأضعف في منافسة الاستبداد الجارية في السودان منذ سقوط الإنقاذ. والشراكة القائمة الآن بين البرهان وحميدتي في الحكم لا ينبغي أن يُظن أنها شراكة بين الجيش والدعم السريع، فالعلاقة التي تربط حميدتي وأسرته بقواته لا تنطبق على الجيش.

البرهان، الذي يسعى إلى الحكم بطموح شخصي ودعم إقليمي، يدرك أنه بإبعاد "مجموعة الأربعة" قد نجح في كسب رضا قواعده في الجيش وإسكات غضبهم، ولكن إلى حين. فالسخط بين العسكريين على وضع الدعم السريع غير المألوف شديد. والمانع الوحيد للاصطدام بينهما هو تحالفهما المؤقت ضد عدو مشترك. إذن هي معركة مؤجلة، ستحسم إما بالسلاح أو بالتسوية.

يحتاج حميدتي إلى هزيمة الجيش أو ترويضه تحت قيادته حتى يستبد بالسلطة في السودان، ولكن هذا يبدو غير ممكن الآن، فميزان القوة يميل لصالح الجيش، وهذا يمنعه من مواجهة الميليشيا خوفًا على المدنيين. يضاف إلى ذلك أن الرفض الدولي للدعم السريع يبدو قاطعًا، خاصة بعد مذبحة الاعتصام، مما يجعل تجميل صورة هذه الميليشيا أمرًا صعبًا للغاية حتى لحليف قوي.

تبقى بعد كل هذا المعضلة الكبرى، وهي قبول المجتمع السوداني لميليشيا قبلية تلطخت أيديها بالدماء حتى باتت منبوذة بلا صديق. قد لا يمنع هذا آل دقلو من الاستماتة إذا واجهوا المساءلة، ولكنهم قد يقبلون التسوية بالتنازل عن الاستبداد بالحكم مقابل العفو، كما هو معروف في حالات تنازل العسكريين عن السلطة.

صحيح أن كافة طرق حميدتي إلى الحكم مسدودة تمامًا، ولكن لا ينبغي التعويل على عقلانيته وقبوله التسليم مقابل العفو مباشرة، فشهوة السلطة لا تخرج بسهولة، بل تُنتزع انتزاعًا، لذلك يجب أن يكون عرض التسوية حاسمًا في الترغيب والترهيب.

الثوابت هي ألا يَحكم السودان بالقوة، وألا تبقى قوات الدعم السريع تحت قيادة حميدتي إلا إذا خرجت من السودان، وما دون ذلك يبقى موضوعًا للتفاوض. (بعض هذا في مقال مآلات الثورة السودانية ومقال طريق الحرية يقود إلى السجان).

البرهان في المقابل، وبعد انقلابه هذا، يُحكم سيطرته على السودان مدعومًا بتأييد كبير من الجيش الذي ضاق ذرعًا بالشراكة مع "مجموعة الأربعة". البرهان تخلص من منافس، والجيش تخلص من عدو، والشعب السوداني تخلص من مشروع للاستبداد المتخفي في زي مدني، ولكننا لم نبلغ الغاية بعد.

إن الشراكة الحالية بين البرهان وحميدتي ستنهار وإن طال الزمن، لذلك فإن مصلحة السودانيين تكمن في إخراج الاثنين عاجلًا. والحق أن هذا كان واجب أي حكومة مدنية مدعومة بسند دولي تأتي إلى السلطة: استخدام كافة أدوات الضغط الجماهيري والإسناد الدولي للضغط على البرهان وحميدتي للقبول بتسوية العفو مقابل التسليم، ثم، متى وصلوا إلى صيغة مرضية، الدفع إلى انتخابات عاجلة تقطع الطريق على الترتيب لأي استبداد جديد.

هذا ما أهملته "مجموعة الأربعة" فانتهت إلى الزوال. ما نحتاجه الآن هو قيادة سياسية جديدة تؤدي هذه المهمة. البرهان غير جدير بالثقة، ولكن ما وعد به هو المطلوب، فما العمل لدفع البرهان للوفاء بوعده دون أن نخشى غدره ويخشى حسابنا؟

هذا الوضع يشبه ما يعرف في علم الاقتصاد بـ "معضلة السجين". في هذه القصة الافتراضية، ينال أحد السجينين حريته إذا وشى بزميله الذي ينال حينها عقوبةً قصوى إذا صمت، بينما ينال كلاهما عقوبة مخففة إذا تعاونا بالتزام الصمت، أو قصوى إذا وشيا ببعضهما البعض. الشاهد من هذا المثال ليس ما هو معلوم من أن التسوية يلزم منها بعض التنازل لأجل بعض المكاسب للكل، ولكنه التنبيه على أنه في حال أصرّ كل طرف من الساعين إلى السلطة على تحقيق نصر كامل، خسر الجميع وعمّ الخراب.

والفارق الجوهري بين المثال أعلاه وواقعنا هو أنه لا توجد قناة اتصال بين السجينين، وعليهما بالتالي اتخاذ قرار مصيري اعتمادًا على التوقع، بينما التواصل عندنا متاح والامتحان مكشوف، فما الداعي للعنت؟

شأن البرهان في أي تسوية للخروج هو ما ذكرناه بخصوص حميدتي، العفو مقابل التسليم مع منصب شرفي بعد الانتخابات كرأسٍ للدولة مثلًا، ولكن المطلوب أكثر من ذلك. نحن نودّ أن نصل إلى صيغة تمنع الجيش من الاستبداد بالسلطة متى أراد بعض السياسيين ذلك.

ولعل السبيل الأمثل هو إدخال الجيش في السلطة (وليس إخراجه) بدستور مؤقت يقسم السلطة بينه وبين الحكومة المنتخبة بشكل مرضٍ يحفظ للجيش حظاً من موارد الدولة تحفظ لأفراده كرامتهم وتغنيهم عن أي مسغبة، والأمر السائد هو أن تقتطع الشعوب من أقواتها لراحة الجند في أوقات السلم مقابل الحماية في وقت الحرب والشدة.

في المقابل، ينبغي أن تُعاد هيكلة الجيش بشكل يُضعف احتمال ضربه الحكم الديمقراطي. هناك سبل عديدة يمكن اتخاذها، ولكن على سبيل المثال يمكن أن تَنْفَصل القيادة المُهِمَّاتية أو القتالية operational command التي تنشط في أوقات الحرب والطوارئ وتتولاها قيادة الأركان بهرميتها الصارمة المعروفة، من القيادة الإدارية التي تدير المؤسسة بشكل عام وتكون في وزارة الدفاع التي يتولى بعضها مدنيون.

وينبغي في هذه الهيكلة أن تمتزج إدارة القوات المسلحة بين العسكريين والمدنيين بشكل تستحيل معه إدارة قنوات الاتصال أو أي عمل لوجيستي في أوقات السلم عبر سلسلة القيادة القتالية وحدها. هذا ليس بالضرورة الحل الناجع، ولكنه مثال لترتيب واقعي وممكن لتقليل فرص استخدام الجيش لضرب الديمقراطية، والشأن في هذا موضعه الدراسات واستقراء تجارب الأمم والتاريخ.

السودان الآن يحتاج أبناءه النجباء، فالسياسة لا تقبل الفراغ، وزهد النجباء هو ما جعلنا مَطِيّة الحمقى ونَهَّازي السوانح الذين أوردونا المهالك. نحن بأمَسِّ الحاجة إلى أذكياء بلادنا حتى يديروا هذه المرحلة الصعبة بحكمة ويخرجونا إلى بَرّ آمن.

والمفارقة في حالنا الراهن، الذي ينطوي على خطر جسيم، هي أننا لا نبحث عن الأخيار الزاهدين على وجه الخصوص، ولكننا نحتاج العقلاء الذين يستطيعون أن يحققوا مصالح ذاتية محضة دون إهلاكنا، والحق أننا في زمن لا نخشى فيه شيئًا كما نخشى الحماقة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة